السبت، 25 يوليو 2020

السببية حجة عقلية أم حماقة بدائية


لست في حاجة لتذهب إلى ما ذهب إليه السفسطائيون من فكرة استحالة المعرفة، وعدم امكانيتها على الأطلاق؛ كي تدرك تهافت المعرفة الإنسانية برمتها. ذلك أن تسليمك بإمكانية المعرفة لن يفضي بك إلا لاستحالتها وتهافتها وتداعيها على نفسها من الداخل، بل ومن نفس سبل وطرق إثباتها. ولعل موضوعا فلسفيا عتيقا وعميقا كالسببية (العلية) بما فيها من استقراء ينبني عليه العلم التجريبي يفي بالغرض لنستوضح من ذلك أكثر.

لطالما ظل العقل الإنساني يعول كثيرا وطويلا على مبدأ السببية كونه واحد من أهم المبادئ العقلية الحتمية المجردة، والأدوات المنطقية الدقيقة الضرورية لفهم العالم والإنسان، بل وفهم ما ورائهما أيضا. لكن ظهور الفيلسوف الشكوكي التجريبي الاسكتلندي ديفيد هيوم في القرن الثامن عشر هز بنيان السببية الراسخ لقرون وقرون. لقد ضرب هيوم حتمية السببية في مقتل حين ربطها بالعادة والتكرار والاستقراء، بل ووصل لأبعد من ذلك حين خلص أن السببية ليست ضامنا حتميا للتنبؤ. فالعادة والتكرار الناجمان عن المخيلة سبلا تجريبية، لا سبلا عقلية محضة في ذاتها كما قد يُتوهم، حيث أن علاقة السبب بالنتيجة والحدث بالأثر علاقة قائمة على العادة والتكرار الناجم من المخيلة، بل وأن البناء على ذلك من خلال الاستقراء يحوي عيوبا كثيرة وكبيرة. فما هو الضامن أن التكرار سيستمر، والعادة ستظل إلا بالتجربة؟؟ وهل الاستقراء الناجم من الظن إن العادة ستظل، والتكرار سيستمر يكون صحيحا صحة مطلقة؟؟

إن الإشكال في رد السببية إلى التجربة سوف يلحق بها كمبدأ عقلي كل تلك الإشكالات التي نواجهها يوما بعد يوم في التجارب. فمما لا شك فيه أن التجربة اليوم تعقدت هي ومعطياتها ونتائجها كثيرا عما هي عليه في زمن هيوم حيث الكون المكانيكي المحتم وفقا للنظرة النوتينية القديمة. فنحن مثلا الآن نرى أبعاد المكان والزمان ليسوا أبعادا مطلقة وفقا لنسبية إينشاتين، بل صرنا في وقت لاحق لذلك لا نقطع أصلا بأماكن تواجد الجسيمات التحت ذرية وفقا لمكانيكا الكم. إننا نتفهم اليوم جيدا تأثير الوعي على الرصد مما ينعكس تباعا في النتائج، ولهذا أصبحنا نستخدم الإحصاء وعشوائيتها لترتيب مخرجات تجاربنا لنصل إلى أفضل نتيجة محتملة مرجحة. إن تعمقنا في التجارب لم يفضي بنا إلا للاحتمالية أكثر وأكثر، حيث أصبح العلم التجريبي ذاته مبني على الاحتمال والترجيح، لا على القطع واليقين. ومن هذا المنحى تصبح السببية المرتبطة بالعادة القائمة على التجريب ذاتها احتمالية وليست قطعية. ولم يتوقف الأمر عند ذلك حيث أن بنيان الاستقراء القائم على السببية ينقلب على نفسه مواجها إشكالات أكثر صعوبة. إن الاستقراء في أحسن أحواله لابد أن يظل ناقصا ومحتملا؛ لأنه لو اكتمل لانتفى بكليته، حيث تصير مقدماته هي نفسها نتائجه ويفقد صفته الاستقرائية، ناهيك عن صدام الاستقراء كآلية عقلية مع أسئلة  أكثر حدة من عينة.. ما هو سبب تعميم حكم ما على كافة التجارب إن لم نقوم إلا ببعضها؟؟ وما هو سبب تعميم أحكامنا أصلا على المستقبل مع أن التجارب محكومة زمنيا بالوقت الحالي أو السابق؟؟ وما بالنا لو كان المستقبل يؤثر في الماضي وفقا لمشاهداتنا وملاحظاتنا في تجارب حديثة كتجربة الشق المزدوج لرصد الإلكترونات؟؟ إن تجاربنا وملاحظتنا حول الأجسام التحت ذرية المتناهية الصغر جعلت من  الكون المادي محض احتمالات لانهائية نرصد منها فقط الاحتمال الذي يكون بوسعنا إدراكه، فكيف نرد احتمالات ما نرصده  إلى أسباب قطعية ثابتة؟؟ كيف نقطع بأي شيء متجاوز للمادة، والمادة ذاتها لا يمكن الجزم بحقيقتها بعد ما عرفناه عنها من خلال الاتصال الشبحي (التشابك الكمي- Quantum Entanglement) حيث كل الاحتمالات في الكون المادي واردة ولا يوجد شيء معد مسبقا، ناهيك عن تأثير زينو الكمي (Quantum Zeno Effect) حيث الحركة المرصودة وهمية ومتصورة وغير حقيقية؟؟

ولم يتوقف نقد السببية ونقضها عند هذا الحد، فلقد ذهب جون ستيورات مل إلى ما هو أبعد من ذلك حين خلص أن السببية تتداعى على نفسها من الداخل بالعودة بها إلى الوارء حيث تصل بنا إلى احتمالين كل منهما يهدمها لا محالة. الأول: وجود مسبب بلا سبب، والقول بهذا يعني انهدام السببية عند تلك النقطة بحيث تصبح ليست حقيقة مطلقة، والثاني هو ضرورة من التسلسل اللانهائي الممتنع عقلا. ولربما هذا هو ما دفع برتراند راسل لاحقا للاعتقاد بأن السببية سايكولوجية بدائية مترسخة فينا لا نستطيع أن ننكر حضورها القوي في الحيوان. فالدواجن مثلا تتوقع الطعام من يد من تعودت أن يطعمها لربطها بالعادة والتكرار بين وجود هذا الشخص والطعام. لكن التجربة تثبت أن هذه التوقعات الغشيمة للاطراد مضللة. حيث أن الرجل الذي ظل يطعم الدواجن كل يوم على مدى حياتها، هو نفسه الذي سوف يذبحها يوما ما بدلا من إطعامها. يريد راسل من خلال مثال الدواجن هذا أن يبرز هشاشة السببية والاستقراء والتنبؤ. 

إلا أنه وعلى الرغم من كل ما سبق، يُبقى الفلاسفة والعلماء على السببية كونها إداة معرفية محتملة لا نمتلك رفاهية التخلي عنها. حيث يؤكد راسل على ذلك حين يقول أننا يجب أن نؤمن على مضض بصدق السببية ومبدأ الاستقراء كفعل أعمى من أفعال الإيمان، حتى يتسنى لنا المضي قدما في طريق العلم ليس أكثر. ونجد هذا المعنى حاضر بقوة أكبر عند كارل بوبر فيلسوف المنهج العلمي الأول حيث يرى أن المعرفة تكون معرفة بقدر ما كانت تصلح للدحض والشك والتجريب؛ لأن في ذلك صيرورتها وتطورها وتناميها.

وخلاصة ما يمكن قوله أن هنالك خللا ضاربا بعمق بين السبب والنتيجة وبين الحدث والأثر ناجم عن ضعف المخيلة وقصور الوعي. وأن هذا الخلل يجعل الاحتمال القائل أنه لا ثمة رابط أصلا بين الأسباب والنتائج  ممكنا وقائما، بل لا يمكن دحضه على الأطلاق حيث لا يمكن أرجاع أي نتيجة أو أثر لسبب أو حدث واحد. أننا بقدر ما اقتربنا من الحقائق بقدر ما تعقدت المشاهدة وغامت الرؤية وتشوشت الروابط بحيث لا تعدو السببية كونها أكثر من حماقة بدائية نتشاطر شقها الأكبر مع الحيوانات التي نظنها أدنى منزلة ووعيا. بل أن ما ندركه من تراكم الواقع وتعقيده يجعلنا ندرك معاني أكثر عمقا منها مثلا أن النتيجة لربما تكون أكثر تأثيرا في السبب المحرك لها منه في تسبيبها، حيث النتائج بتراكمها وتداخلها وتفاعلها بوسعها أن تلاشي الأسباب الأولى كونها تصبح بحد ذاتها أسبابا مستقلة مع الوقت، بل مع الوقت أيضا تلاشيها نتائجها، وهكذا إلى ما لانهاية. فليست السببية القانون الوحيد كما يوهمنا الوعي كي ينطلق بنا زمرا في الشتات، فالعلية بذاتها هي جدلية وعينا المفرغ التي تجبرنا على الاستسلام لها؛ كي نتأقلم مع العبث الكائن سلفا كونه المنطق الوحيد المتاح. يتجلى هذا العبث واضحا بالنظر لسؤال العلم عن الكيفية (كيف) لا سؤال العلية والسببية (لماذا). حيث كيف للوعي الإنساني أن يضع كل هذه الافتراضات للإجابة عن لماذا، بل ويطور ميكانيزم السببية للتعاطي معه على هذا النحو من التسليم، قبل أن يجيب أصلا عن السؤال الأسهل المتعلق بالكيفية والذي كلما تراكمت تصوارته المعرفية أوردتنا حدود التلاشي أمام لا نهائية الاحتمالات؟؟

الأربعاء، 8 يوليو 2020

الوهم ‏العلمي

إن النظر في تاريخ العلم يجعلنا ندرك أن النتاجات العلمية لا تراكم الحقائق المجردة، بقدر ما تراكم ما ندحضه من تصوراتنا عنها. وحتى تلك التصورات التي نحققهها ونمحصها وندققها مرارا تظل في أحسن أحوالها محض فرضيات آنية محتملة مرجحة غير قطعية، بل ومعرضة لأدوات الدحض والشك والتجريب ما بقيت. لا ثمة مرجعية ثابتة في آليات ومباحث العلم لا يمكن تجاوزها سوى الدحض والشك والتجريب. فالعلم بطبيعة منهجيته مصاب بالوسواس القهري حيال نتاجاته ومنتجاته. هذا لأنه ليس بوسعه إلا أن يرى العالم كمحض تجربة، على قدر ما أحكمنا تصميمها وشروطها وآلياتها وأدواتها على قدر ما أستطعنا ترتيب مخرجاتها أحصائيا وفقا لأكبر احتمالية مرجحة ممكنة.

إن النظر في تطور علم الطبيعة ابتداء من فرضيات الأرض المركزية المسطحة الثابتة، ثم كرويتها وثباتها مع استمرار فرضية كونها مركز الكون كما ظن أرسطو ومن بعده بطليموس، وصولا إلى كوبرنيكوس وجاليلو حيث الأرض مجرد جرم يدور حول الشمس التي هي مركز الكون، ومحاولة تفسير ذلك الدوران وفقا للقوى المغناطيسية. ثم حدوث القفزة الكبيرة باكتشاف نيوتين لقوى الجاذبية التي تسيطر على حركة الأجرام في الفضاء وفقا لكتلتها والمسافات بينها حيث الحركة مستمرة دائمة ودائبة. حيث تحررت الفيزياء ولأول مرة من فكرة المكان المطلق على يد نيوتين ليبقى الزمن هو البعد المطلق الوحيد لحساب الحركة والسرعة. ولكن سرعان ما تداعت كل تلك التفسيرات النيوتينة الحتمية عن الحركة بخروج نسبية إينشاتين إلى النور حيث السرعة نسبية، والزمن نفسه ليس بعدا مطلقا كما كان متصورا من قبل، حيث أن الزمن نفسه يتباطئ كلما زادت السرعة، ولا شيء ثابت غير سرعة الضوء. ضرب هذا الاكتشاف تصورات نيوتين، وأعاد تفسيرنا للزمان والمكان كبعد واحد مدمج، ونسيج كلي متجانس يسمى الزمكان لا يمكن وصف مواضع الأجسام وحركتها إلا به. ولم ينتهي بنا هذا التخبط في تصوراتنا عن الكون وأبعاده عند هذا الحد، فبظهور عالم الفيزياء الألماني هايزنبرغ الذي فضحت ملاحظاته لدراسة حركات الأجسام الذرية والتحت ذرية الخلل في كل ما سبق. حيث إن تجاربه حول الذرة أثبتت إن الإلكترونات لا تدور في مسارات محددة حول النواة يمكن التنبؤ القطعي بها. أرسى هايزنبرغ مبدأ اللايقين في الفيزياء والذي ينص على أنه ليس بالإمكان معرفة مكان وسرعة وتوقيت أي جسيم داخل الذرة أثناء عملية القياس لأن لأجهزة القياس وللشخص الذي يقيس تأثير على النتائج. دخل الاحتمال إلى العلم التجريبي من أوسع الأبواب حيث النتائج ليست قطعية ولا يقينة وإنما محض احتمالات مرجحة. لقد جعلنا هذا المبدأ أمام عالمين عالم من الأجسام الكبيرة وعالم من الأجسام الصغيرة  لكل منهما نتائجه وتصوره وقوانينه المختلفة رغم كونهما معا يقعان بشكل مادي أمامنا في نفس ذات العالم. هكذا ظهرت ميكانيا الكم بكل تطبيقاتها الهائلة والثورية إلى النور حيث إذواجية الفيزياء، وإذواجية الموجة والجسيم، وتأثير الوعي على الرصد وغيرها من الارباكات التي تصيب الإنسان بالجنون لا الفهم، حيث قطة شرودنغر حية وميتة في الوقت نفسه.

يبدو مما سبق أن الإنسان والعالم  يشبهان خطان متوازيان يستحيل أن يلتقيا.. كل نقاط التقاطع بينهما هي نقاط زائفة متوهمة تخص الإنسان وحده.. تصورات على قدر ما تدلنا تضلنا، وعلى قدر ما تضلنا تدلنا. يتجلى هذا الجفاء بين الإنسان والعالم في ذات وموضوع كل منهما. فالذات الإنسانية على كافة أصعدتها العقلية والحسية والشعورية والوجدانية قاصرة عاجزة، بل ومخادعة أحيانا، وفوق كل هذا قهرية لا يمكن تجاهلها او الانفكاك منها، ولهذا من الطبيعي أن نجد أن الموضوعات الإنسانية الناجمة عن ذلك متفككة وملتبسة ومشوشة بل ومتخبطة أيضا. أما ذات العالم فلا يمكن النفاذ إليها إلا من خلال هذا الخلل الفضولي الذي يطفو من ذواتنا القاصرة العاجزة المقهورة على التعاطي والتفاعل.  ليتحول العالم على ضخامته وعظمه على إدراكنا، وعلى ضآلتنا وضآلة موضوعاتنا داخله إلى مجرد موضوع من تلك الموضوعات التي لا نستطيع الهرب منها.

ربما هذا ما دفع  كارل بوبر وهو لا شك فيلسوف المنهج العلمي الأول للتسليم  بأن الخاصية المنطقية المميزة للعلم التجريبي هي إمكان تكذيب عباراته، وقابليته المستمرة للمواجهة مع الواقع والوقائع، عن طريق النقد والمراجعة واكتشاف الأخطاء. وبالتالي التصويب ومحاولة الاقتراب أكثر من الصدق. إن كارل بوبر ببساطة بفلسفته تلك يتحرر تماما من رواسب المرحلة الحتمية، ليصل إلى أن المعرفة ديناميكية متحركة لا ثبات لها، ولا رسوخ فيها، وبالتالي فلا ثمة طائل من تبرير المعرفة العلمية ومعرفة حدود صدقها وصحتها، بل الأجدى من هذا هو المحافظة على نموها وتطورها وصيرورتها وتقدمها. ربما لأن هذا هو أقصى ما يسعنا عمله.

ويبقى ما سبق وعلى حداثته النسبية هو نفسه ما قد وصل إليه كانط في وقت سابق عن ذلك في نهايات القرن الثامن عشر، وذلك من خلال منحى ابستمولوجي فلسفي صرف حين قرر في كتابه نقد العقل المحض ما مفاده: أننا لا نستطيع إدراك الأشياء في ذواتها.. فلا العقل وحده يستطيع أن ينفذ إلى ذوات الأشياء، ولا حتى التجربة وحدها تستطيع أن تصل بنا إلى معرفة حقيقتها المجردة. إنما المعرفة عند كانط هي تعاون بناء بين العقل والحس لإدراك الظواهر كما نعرفها، لا كما هي عليه في الواقع والحقيقة. ورغم قطع كانط بيقينة الرياضيات كون موضوعاتها صناعة عقلية بحتة إلا أن تلك الفكرة ذاتها لم تستطيع الصمود لأكثر من قرن ونصف من تاريخ إقراره بها. وذلك حينما خرج عالم المنطق والرياضيات النمساوي الشاب كورت غودل في عام 1931 بمبرهنات عدم الاكتمال والتي ضربت يقينية الرياضيات وقطعيتها في مقتل.
 فبينما كان عالم الرياضيات الشهير ديفيد هيلبرت يعمل على نظام يريد أن يثبت من خلاله  أن الرياضيات علم كامل نستطيع إذا انطلقنا فيه من مسلمات مناسبة أن نخلص إلى نسق غير متناقض تكون كل عبارة فيه قابلة للبرهنة والإثبات. ضربت إجابة غودل عرض الحائط بتفاؤله هذا. حيث خلص في نظريته إلى مبرهنتان الأولى تنص على أنه هناك مبرهنات رياضية صحيحة لا يمكن البرهان عليها أبدا. والثانية هي إن أية صياغة لنظرية الأعداد تكون منبثقة من عدد من المسلمات الغير متناقضة لابد أن تكون غير كاملة بحيث يظل بها عبارة واحدة على الأقل لا يمكن برهنتها وإثباتها رياضيا. ومنذ تلك اللحظة الثورية التي هدم فيها غودل جدار اليقين الذي كان ينشده هيلبرت أصبحت الرياضيات علما غير كاملا لا يمكننا فهم أصله ولا مصدره. المدهش بحق إن غودل أثبت ذلك النقص والخلل رياضيا بحيث تصبح الرياضيات صحيحة رغم نقصها وعدم اكتمالها، ومبرهناته ذاتها من داخل الرياضيات ناقصة رغم صحتها. إن هذا شبيها لحد ما بقطة شرودنجر التي هي حية وميتة بنفس الوقت والتي ذكرناها في معرض حديثنا عن تطور الفيزياء.

ومن سبيل آخر يذهب بنا ديفيد سالزبورغ بعيدا في التشكيك والاحتمالية وعدم اليقين في العلم، وذلك من خلال كتابه الأشهر -ذواقة الشاي- حيث يقول في أحد فصول كتابه ما يلي: كان الاعتقاد السائد في فترة الاتجاه النيوتيني الحتمي السابق أن كثرة القياسات الدقيقة يؤدي إلى تعريف أفضل للحقيقة المادية الواقعة تحت التجربة. أما في الطريقة الإحصائية الحديثة للعلم فقد يكون من غيرالضروري الحصول على متغيرات التوزيع التي لا يمكن تقديرها بوجود الأخطاء بغض النظر عن مدى دقة نظام القياس. ففي الطريقة الحتمية هناك مثلا رقم ثابت هو عجلة الجاذبية والذي يصف كيفية سقوط الأجسام. أما في الطريقة الإحصائية الحديثة فإن قياسات الجاذبية تختلف باختلاف التجارب. والبعثرة العشوائية الناتجة عن التوزيع هي ما نرغب في تقريره بغية فهم سقوط الاجسام بصورة أدق عن السابق. ويستطرد في فصل آخر قائلا: لا يوجد إثبات علمي لوجود الأسباب والنتائج، بل لا يوجد ثمة نماذج رياضية راسخة لحقيقة ما تقترح مثل هذه النتائج. إن المعرفة تصريح إيماني ليس إلا، له نفس القدر من القيمة والصحة كما لوجود الشيطان أو الإله. وحتى تلك النماذج الإحصائية التي تُعرف الطلب العلمي عن طريق متغيرات التوزيع الاحصائي مبنية أيضا على تصريح إيماني عن طبيعة عشوائية الحقيقة واحتماليتها، ولقد قادتني تجاربي العلمية إلى الاعتقاد إن التصريحات الإحصائية الاحتمالية قد تكون أقرب للحقيقة من النسق الحتمي للعلوم والمعارف. إن الإحصاء عشوائي بحد ذاته، لكن أساليبه لها خواص احتمالية جيدة. وعلى الرغم أنه ليس بوسعنا أن نتأكد أبدا من معرفة ما إذا كانت  القيم الاحصائية لمجموعة بيانات ما صحيحة. إلا أننا يمكننا فقط القول بأننا استخدمنا إجراءات تقدم إحصائية فعالة تتطابق مع هذه المقاييس.

إن التجربة العلمية ووفقا لهذه التصورات لا أرها أكثر من نمط معرفي مضلل ومختزل. فمهما طورنا لها من أدوات الرصد، وأليات التقصي، وإمكانات لإحكام شروطها، ومهما احكمنا مخرجاتها إحصائيا واحتماليا بخورزميات الاحصاء وبحوث العمليات الرياضاتية لن نخلص منها إلى نتائج متحققة وراسخة يمكن تأويلها في وجهة نظر موضوعية أو سردية واحدة متكاملة للتأويل. ذلك أن عالم التفاصيل والظروف المختزلة من وراءها تظل لا نهائية ممتدة، بل وربما حتى متغيرة. إن إنتروبيا الكون تزيد كلما اتسعت دائرة التجربة، وانفتح مداها بحيث يصعب الخروج من تلك الفوضى بخلاصة واضحة مفيدة ومثمرة. وقد يتنكر العلم أحيانا لفكرة أن العالم عشوائي النزعة فوضوي الطابع والدافع بطريقة يستحيل معها فهمه، حيث أن فرضية كتلك ستكون مثبطة للغاية تقتل الشغف والطموح الملقى على عاتقه، بل وتحيله هو والعلماء إلى دور زمني وظيفي وتوصيفي بسيط حيث كل ما يستطيعوه هو التجاوب مع تفاصيل مختزلة ومبعثرة هنا وهناك.. وبهذا يكون النتاج المعرفي ما هو إلا تجاوبا تعايشيا لتخفيف مشاق الحياة ومصاعبها وتحقيق رفاهية مادية للإنسان ربما تضره أكثر مما تنفعه على الصعيد الانطولوجي وحتى الابستمولوجي.

إن العلماء أنفسهم وبعيدا عن الفلسفة لا ينظرون إلى مخرجات بحوثهم وتجاربهم بعين القطع واليقين. فها هو نيوتين نفسه والذي أدت اكتشافاته العظيمة إلى هذا النسق الحتمي القديم للمعرفة يقول في أحدى مذكراته: لا أعرف كيف أبدو للعالم، ولكنني أرى نفسي كطفل يلعب على شاطيء البحر، ويعثر بين الحين والآخر على صدفة جميلة أو على حصاة ملساء، بينما الحقيقة ممتدة أمامي كمحيط عظيم لم أكتشف منه شيئا.  ويتحول هذا المعنى إلى نسق أكثر خواء وعدمية عند عالم الفيزياء الحديثة ستيفن هوكينغ والذي يعد واحدا من أكثر المدافعين عن العلم والمناهضين للفلسفة حين يقرر في محاولة نفيه وجود الإله،  قائلا: إن الكون بشكل فيزيائي يؤول رياضيا إلى صفر. ولربما مما سبق نستطيع أن نتفهم الدوافع التي دفعت بعالم اللسانيات الشهير والفيلسوف المعروف نعوم تشومسكي للسخرية اللاذعة من العلم حين قال: يشبه العلم إلى حد ما نكتة عن رجل مخمور يبحث تحت عمود الإنارة عن مفتاحه الذي أضاعه في الجهة الأخرى المظلمة من الشارع، لا لأن ذلك خيارا صحيحا، ولكن لأن تلك الجهة التي يبحث فيها هي الجهة الوحيدة المضاءة.

إن دوغما العلم التي تستشري في عصرنا الحالي ما هي إلا القشة التي يتشبث بها الإنسان المعاصر في بحر وجوده الهائج المضطرب بعدما تداعت كل سفن حضاراته ونتاجاتها لدرجة أنه أصبح على حافة الكفر بوعيه وعقله وكينونيته، بل بوجوده وكونه وعالمه. والمخيف بحق أن تصبح تلك القشة التي ينشدها الجميع هي نفسها القشة التي ستقصم ظهورهم جميعا إذا لم ينتهوا عن تحميل العلم فوق ما قد يطيق. فالعلم مجرد أداة هدم بناءة تتبع آلية بحث توصيفية للظواهر تحاول على استيحاء الاقتراب من بعض تفاصيل الحقيقة. الحقيقة التي يبدو أنها تستعصي حتى على نفسها.

الثلاثاء، 16 يونيو 2020

الحياة فرصة عظيمة أم ورطة مزرية؟؟

من بوسعه أن يعرف إذا ما كانت الحياة فرصة عظيمة أم ورطة مزرية؟؟ من باستطاعته أصلا أن يفرق بين ما هو نقمة، وما هو نعمة؟ مشكلة الإنسان أنه يعظم دائما من شأن محاولاته، وهذا فقط من أجل أن يظل يحاول، حيث الحياة بمجملها ليست أكثر من محاولة مرهقة وجبرية لا فكاك منها.

مآلات الأشياء المخزية كانت لتجعلها لا تبدأ من الأساس، لكن شيئا ما سبب خللا شديد سمح بحدوث ما يحدث على نحو ما هو حادث. ربما فضل الهوموسبين الإنقراض الطوعي لو علم بهذا الموئل الذي نحن فيه الآن.. الوجود ذاته ربما تعطلت أسبابه فيه لو كان على علم بنتائج تلك الأسباب. ربما العدم الآن يدمي أصبعه ندما كونه تفلت منه هذا الوجود عبثا. ولكنه العمى المسمى الغيب هو دافعنا جميعا لنكون، حيث لا يفيد الندم، ولا يجدي الألم. 

والغيب لا يعني المجهول كما قد يشاع، إنه ببساطة لا يعني شيئا سوى الاحتمال.. الاحتمال الذي نتفائل فيه دائما بأن يكون على قدر آمالنا وأحلامنا وطموحاتنا، لكنه بمرور الوقت لا يكون، ولا نكون، بل يستحيل مثلنا إلى هاوية لا قرار لها من السوء المفعم باليأس والخيبة والإحباط الملغم أيضا بمزيد من الغيب المستغرق في الاحتمال.. هكذا تستمر اللعبة.. هكذا تبوخ، ورغم ذلك أبدا لا تتوقف حيث الخلل الذي أحدثها لا يستطيع أن يصحح من نفسه.

يقولون في الأثر لو علمتم الغيب لاخترتم الواقع.. وهذه عبارة أفعوانية بامتياز لأن دلالتها الحقيقة لا تنبأ إلا بسوء الطالع وفداحة المستقبل واللذان يجبرانا على اختيار الواقع حتى وإن لم يكن على مستوى الطموح.. ولكن عكس ذلك تستدعيها الألسن، وتلوكها الأفواه، وذلك على نحو ميتافزيقي يجعل الغيب احتمال مدرك من وراءه حكمة ومغزى وغاية.. وأنا لا أريد أن أنساق نحو جدل يحوم حول وجود حكمة لا نعرف منها غير غيابها، وغاية لا يستيبنها أحد، ومغزى لا يمكن الوصول إليه.. ولكن يبقى سؤال ما قيمة الحكمة طالما لا نعرفها؟ وما جدوى الغاية إذا لم نستيبنها؟ وما نفع المغزى إن لم ندركه؟

الاثنين، 8 يونيو 2020

أبطال ‏وليم شكسبير ‏الحقيقيين

صورة للأديب الإنجليزي وليم شكسبير

لا أنكر أن أشد ما يستوقفني في مسرحيات شكسبير هي الصياغة اللغوية الشاعرية المحكمة والصور المجازية الكثيفة التي تجري على ألسنة الأبطال، والتي تستطيع أن تحتفظ بنفسها متماسكة ومبهرة وبارقة رغم ترجمتها للغات عدة. بل أنني لا أبالغ إذا قلت أن اللغة هي البطل الحقيقي لشكسبير قبل الشخوص والأفكار والحبكة والترميز والبناء الدرامي، حيث تستطيع أن تخرج من كل مسرحية بعدد كبير من الاقتباسات الملفتة العميقة، والتي من الممكن استخدامها واستداعائها في مناسبات حياتية كثيرة بعيدا عن شخوص قائليها. ولا غبار عندي أن اللغة واللغة وحدها هي من جعلت شكسبير شكسبير.
ولكني رغم أجلالي الشديد للغة شكسبير الجزلة الفخمة وتصويراته البلاغية المحكمة أقف بنفس الأجلال والتقدير لشخوص بعينها من أبطال مسرحياته. والمدهش بحق أن تلك الشخوص التي استوقفتني ليسوا أبطال المسرحيات أصحاب الأدوار الأولى، بل شخوصا من أصحاب الأدوار الثانية والثالثة بل وحتى الثانوية من حيث حجم أدوارهم. ولكني رغم هذا أجد لهم حضورا طاغيا يعكس جهدا فكريا جبارا من حيث التشخيص والكتابة واللغة والترميز جعلهم هم الأبطال الحقيقين للحبكة والموجهين لدفة الأحداث. وتلك أيضا أحد  أهم سمات هذا الكاتب العظيم من وجهة نظري ألا وهي الاهتمام بالشخوص أيا كان حجم أدوارها أو الهدف من استداعائها لتوجيه سير الأحداث والحبكة. ولكي اوضح ما أرمي إليه سأذكر بعض من تلك الشخوص الذين أراهم حاضرين في أشهر مسرحياته كأبطال محركين للأحداث، رغم أنهم ليسوا الابطال الحقيقين لتلك المسرحيات.

وأول تلك الشخصيات هو كاسيوس في رائعة يوليوس قيصر.. ومما لا يخفى على أحد أن مسرحية يوليوس قيصر هي ملحمة تراجيدية تحكي عن تلك المؤامرة التي حيكت لاغتيال قيصر. ورغم أن دور البطل الرئيس الذي تدور حوله الأحداث هو يوليوس قيصر والبطل الآخر المواجه له على الضفة المقابلة للقصة هو بروتوس صديقه زعيم المتآمرين إلا أنني أجد شخصية كاسيوس هي الشخصية التي تحرك الأحداث من أولها إلى نهايتها.. كاسيوس هو صلب القصة تماما وعمود خيمتها بحقده وحسده وحنقه وحيله البليغة في الأقناع، والذي لولاه لما ظهرت المؤامرة بهذا الشكل، ولما خرجت تلك المأساة التراجيدية على هذا النحو من الإحكام والروعة. إن كل كلمة يقولها كاسيوس منذ وسوسته الأولى لبروتوس إلى لحظة انتحاره في النهاية هي الخيط الحقيقي الذي تنتظم فيه كل الشخوص والأدوار لتظهر لنا تلك المأساة بنظمها الفريد المبهر، وبحبكتها المحكمة اللافتة. 

وبنفس الطريقة التي تحدثنا فيها عن كاسيوس في مسرحية يوليوس قيصر نجد شخصية إياجو في مسرحية عطيل.. وإياجو هو صورة مجردة للشر والغيرة من سيده وقائده عطيل ذا البشرة السوداء والغيرة الشرقية الخالصة.. يتلاعب إياجو بجميع شخوص المسرحية بطريقة تسمح للأحداث إن تنساب بسلاسة وفق مخططاته المحكمة.. وبهذا التكنيك المسرحي الذي يستخدمه شكسبير مع شخصية إياجو تكنيك -الحديث إلى النفس- يجعل شكسبير من إياجو هو البطل الحقيقي للأحداث.. ففي كل خطة يسرها إياجو إلى نفسه يتواطئ المشاهد في انتظار تحقيقها من جانب بقية الأبطال على خشبة المسرح إلى أن يسقط ٱياجو في النهاية بيد زوجته التي تكشف حيلته.

أما الشخصية الثالثة وبحجم دور أقل كثيرا مما سبق، رغم أن تلك المسرحية هي واحدة أطول مسرحيات شكسبير على الأطلاق من حيث الحجم نذكر شخصية الشبح في مسرحية مأساة هاملت. حيث أن الدافع الحقيقي لانتقام هاملت من عمه الذي قتل أبيه، وتزوج أمه، واستولى على العرش هو ذاك الشبح الذي ظهر له ليخبره بذلك. من عند هذا الشبح -والذي جعله شكسبير يحمل نفس أسم البطل هاملت- تبدأ ملحمة الانتقام لتنتهي بانتقام كامل لهاملت من قتلة أبيه.ينتهي بموته أيضا. ورغم غياب هاملت الشبح الذي حرك كل هذه المأساة في نهاية المسرحية يبقى حضوره طاغيا  كون هاملت الحقيقي نفسه مات قتيلا مثل أبيه الملك المغدور.

الثلاثاء، 2 يونيو 2020

ضَرْعُ الْحَيَاةِ تَيْبَسَ


أَنَا مِثْلكُمْ يا صَاحُ
أَوْ حَتَّى أَقَل،

فَأَنَا أَهَابُ مِنَ الْخَوَاءِ..
مِنَ الْفِنَاءِ.. وَلَا جَدَل

لِكَنَّنِي طَوْلُ النّوَائبِ
أَوَرَّثَنِي الْخَجَل

مِنَ التَّلَهِيِّ بِالتَّخَوُّفِ،
وَالتَّمَنِّي بِالْأَمَل.

أَنَا مِثْلكُمْ ؟! لَا..
أَنَا طَبْعًا أَقَلّ.

ضَرْعُ  الْحَيَاةِ تَيْبَسَ
وَجَرَّارُنَا اِنْكَسَرَتْ
مِنْ فَرْطِ التَّعَب

فَمَا أَجْدَى الْبُكَاءَ
عَلَى الْحَلِيبِ إِذَا اِنْسَكَب

وَمَا أَجْدَى الْجَرَّارَ
لَوِ الضَّرْع اُنْتُهِب

تَقْسُو السَّنُونُ بِفُوَّتِهَا
وَكَأَنَّهَا نَارٌ..وَكَأَنَّنَا
نَحْنُ الْحَطَب

الأربعاء، 13 مايو 2020

وما تبقى سوى الألم

صورة من فيلم الجوكر


سئلَ الصدى: أينَ الفتى؟
أينَ الذي ألقى الصراخَ، وغاب؟
أين هو؟؟ 
لأردَ عنه صراخهُ بصراخي..
صرخَ الألم:
كان الفتى شبحاً هناكَ، وذاب،
أما أنا أبداً هنا.. يطفو بكائي بالغنا،
ويموت في فرحي الشباب.
لا تسئلنَّ عن الفتى،
غابَ الفتى من قبلِ حتى صراخهِ،
كان الفتى رغمَ الوجودِ غياب.
قد رأهُ الدمعُ يومًا
يرسمُ بالرملِ وجهاً ضاحكاً
و الوجهُ يبكي راسمًا
بالدمعِ نظرات العتاب.
غابَ الفتى، ذابَ الصدى،
وما تبقى سوى الألم.
ذكرى لوجهٍ ضاحكٍ 
يبكي عذاب.

الخميس، 7 مايو 2020

فيوضات العبث

نظرة الأديب الإيرلندي صمويل بيكيت المفعمة بالعبث

(١) الكون خرب بطبيعته.. قصر ذاكرتنا، ومحدودية أعمارنا هما ما يجعلاه كما نراه أكثر ثباتا واتزانا وضبطا وانتظاما ومنطقية.

(٢) الوجود معضلة ذاته التي لم ولن تحل، والإنسان قضية نفسه الخاسرة التي منها يكل، والوعي في أقصى درجات تجليه لا يمكنه استيعاب شيء أكثر من ذلك. الوعي مجرد طفرة تطورية من أجل البقاء، لا من أجل الفهم والإدراك.

(٣) مآلات الأشياء المخزية ما كانت لتسمح أبدا ببدئها، لكن مع الأسف لا يوجد ثمة علاقة حقيقية تربط بين الأسباب والنتائج. السببية مجرد حمق بدائي لا يوجد ثمة داع لبقائه.

(٤) لا ثمة رابط بين الإنسان ووعيه، ولا بين الوعي والوجود، ولا بين الوجود "كمعني" والكون "كمادة"، ولا بين كل ما سبق ومسوغ نظري افتراضي كالعدم. تسلسل هذه الأشياء مجرد ميكانيزم إدراكي يخص عقولنا فقط، ولا ثمة دليل عليه خارجها. 
      
(٥) كل السرديات الكبرى سواء كانت تفسيرات فيزيقية خالصة أو حتى تأويلات ميتافيزيقية خالصة مجرد حيل تعايش وقتية تراكمها لا يعني الوصول بها لشيء في النهاية. رحلة الحضارة الإنسانية لهاث محموم خلف سراب لا يظهر إلا ليختفي.

(٦) هشاشة ما أنجزناه من ملهيات مادية بتراكم الوقت مع سفاهة ما طورناه من حيل معنوية أو قيمية توافقنا عليها.. هو ما يرسم تصورنا الحياتي المؤقت الذي يبدو منضبطا في حينه.. متضاربا متخبطا هشا على طول رحلته.

(٧) الآخر عبء، لكنه هو العبء الوحيد المتاح هنا لنتبادل الأعباء معه حيث أعباء الوجود ساحقة متنامية، ولا تنتهي حيث اللغة في أحسن أحوالها ليست أكثر من فخ على هيئة سلوان عظيم. 

(٨) ربما يتوسع المكان زمانا، وربما يتمادى الزمان مكانا كبعد واحد مدمج بعده الآخر المُلح هو الرصد.. الزمكان والرصد وجهان لعملة واحدة، لا يمكن التحقق أصلا من وجودهما.

(٩) المعرفة الإنسانية في خلاصتها ليست أكثر من أسطورة تتطور، وخرافة تتحور من أجل تبديد الفراغ، وإثبات وجودنا لأنفسنا. 

(١٠) لا يمكن معرفة الحياة بممارسة الحياة، ربما نعرفها بشكل أدق بممارسة الموت.. حيث الموت هو كل ما لا نعرف عن الموت.

(١١) تسعة أعشار السعادة في الجهل، والعاشرة في الوهم.. والجنون هو سيد الوهم والجهل معا، لهذا لا يكون النعيم إلا من نصيب المجانين.

(١٢) الخيال خيبة رحبة ممتعة تفسد الواقع الذي يدفعنا بخيباته وفساده إلى الهروب مجددا إلى الخيال.

(١٣) سياط الألم ستلاحقك من كل إتجاه؛ لتجبرك على الهروب في طريق الملذات الحسية. في نهاية هذا الطريق المزين بالمتع لا شيء  ينتظرك سوى الملل.

(١٤) المجهول يحيط بنا من كل الجوانب.. المجهول محتمل، والاحتمال لا يثير شيئا سوى المخاوف، والخوف من الألم أشد ألمًا من الألم ذاته؛ لهذا تبدو الحياة صعبة إلى حد لا يطاق.

(١٥) نحن كبشر نعظم من شأن محاولاتنا التافهة التي لا جدوى منها، فقط لنظل نحاول حيث أنه ليس بوسعنا هنا شيء آخر غير ذلك.

(١٦) الخلل يطفو في كل شيء. الأشياء لا تستطيع أن تشعر بخللها الذاتي كما أن الخلل لا يستطيع أن يصحح من وضعه من تلقاء نفسه.

(١٧) لا أحد يستطيع أن يعرف نفسه التي تدفعه دفعا للتعرف على الأشياء، هكذا تصير كل معارفنا عبارة عن جهل مركب علينا أن لا نأخذه على محمل الجد كون المتاح هزلي وبجدارة.

(١٨) بشكل واقعي محض ليس بوسعنا مواجهة كل ما سبق إلا من خلال قاعدتين مجردتين فيهما من العزاء ما فيهما من المأسأة.. الأولي: لا توجد خسارة أكبر من كونك موجودا أصلا لتخسر. الثانية: هناك دائما ما هو  أسوأ ليحدث.

(١٩) بشكل براجماتي أقل حدة ودقة، وأكثر عملانية وفرادنية يمكننا العيش طبقا لمبدأ بسيط للغاية هو.. عش بالطريقة التي تريحك.. هذا إن وجدتها.. فإن لم تجدها فأبحث عنها حتى تجدها أو تموت.. أيهما أقرب.

(٢٠) كل ما دون ذلك تفاصيل فارغة.. تأتي لترحل معنا.. لا نعرف من أين؟؟ ولا إلى أين؟؟ ولا يمكن حتى أن نعرف بشكل قاطع.. لماذا تمضي بنا وفينا على هذا النحو؟؟

الثلاثاء، 5 مايو 2020

كيف تحولت مأساة جورج كليمنصو الجادة إلى ملهاة تافهة على يد القرموطي؟؟

صورة لرئيس وزراء فرنسا جورج كليمنصو

جورج بنيامين كليمنصو -لمن لا يعرفه- هو واحد من أعلام السياسة في تاريخ فرنسا الحديث. فهو رجل دولة من طراز رفيع، وسياسي مخضرم متمكن، وقائد حرب لا يشق له غبار. اختطفه العمل الصحفي شابا من مهنة الطب التي تعلمها في جامعة باريس المرموقة، ليسافر إلى الولايات المتحدة الأمريكية عام 1865، ليعود إلى فرنسا بعد ذلك بعدة أعوام كصحفي متمرس يقيم قلمه أوساط السياسة ويقعدها، ليتدرج بعد ذلك في المناصب السياسية.. فمن رئيس بلدية أحد المقاطعات، إلى عضو بارز بالبرلمان، ثم وزيرا للداخلية، ثم وزيرا للدفاع، ثم رئيسا لوزراء فرنسا لمرتين بالانتخاب، أحداهما قاد فيها فرنسا في الحرب العالمية الأولى، وخرج بها منتصرا حيث كان من أقوى المساهمين في معاهدة فرساي التي أسدلت الستار بشكل رسمي على وقائع الحرب العالمية الأولى بين دول الحلفاء ودول المركز. 

أذن نحن بصدد شخصية تاريخية فارقة فذة، ومن ورائها حياة إنسانية عامرة تذخر بالكثير والكثير من التجارب التي جعلت الرجل يترك كل هذا في سنواته الأخيرة، ليركن إلى كوخ صغير معتزلا العمل العام؛ ليتفرغ للتأمل والقراءة والتأليف، ليترك لنا قدرا لا بأس به من الكتب، ربما من أهمها عمل أدبي يعد من روائع المسرح العالمي هو مسرحية "قناع السعادة".

و"قناع السعادة" هي مسرحية تراجيدية تدور أحداثها في بكين بالصين لشاعر وحكيم صيني يسمى "تشنجآي" وهو رجل ضرير قد تصالح مع عماه برضا بالغ قانعا بما عنده من زوجة حانية محبة، ومن ابن طيب مطيع، ومن أصدقاء أوفياء، بل أنه كان يعتبر أن تلك الزمرة المحيطة فيها من التعويض ما هو أكثر بكثير من خسارته لنور عيناه.. لكنه وفي خضم الأحداث يهديه أحد أطباء البربر الأجانب أكسيرا سحريا في مقدرته أن يعيد البصر بثلاث نقط في كل عين، ولكن عليه استخدامه بحذر شديد، حيث أن عشر نقط من ذلك الاكسير كفيلة بأن تيبس في الحال محاجر العيون.. ورغم عدم اقتناعه إلا أنه ظل يستخدم هذا الاكسير مداوما عليه.. حتى ذات مرة أخيرا وفي نهاية أحداث المسرحية يستطيع هذا الأكسير السحري من أن يعيد إليه بصره، ليكتشف أن الحقيقة الجميلة التي لطالما عاش قانعا راضيا بها كانت محض أكاذيب ووهم حجبها عنه عماه.. فزوجته المحبة تخونه مع صديقه الوفي.. أما صديقه الآخر الذي لطالما أبدى المودة قد سرق ديوانه وأرسله للامبراطور كاتبا عليه أسمه.. أما أبنه المطيع فلا يفعل شيء غير الاستهزاء به.. هنا يدخل الحكيم "تشنجآي" في لوثة من الهستيريا.. يكتشف فيها أن العمى كان هو قناع السعادة الذي يحجب عنه فداحة وبشاعة الأشياء والأشخاص.. فيتشكك في كل شيء.. في الصداقة والوفاء والحكمة وفي كافة القيم والأعراف والتقاليد، حتى يصل به الأمر في أن يتشكك في تلك الوصفة التي ردت عليه بصره، بل ويعتبرها سحرا شيطانيا من صنع ذلك الطبيب البربري.. وعلى وقع تلك الصدمة يسكب كل ما في القارورة في عينيه لتتيبسا تماما وتحترقا، ويعود أعمى من جديد.

وكم من الملهم أن نذكر بعضا من تلك العبارات اللافتة التي جرت على لسان البطل "تشنجآي" عند اكتشافه لتلك الحقائق المروعة البشعة بعد أن أرتد إليه بصره كي تكتمل الصورة.. يقول:

"هل حقيقة أن في تلك اللحظة التي أعود فيها لرؤية هذا العالم ينهار فجأة صرح سعادتي؟؟"
"أن ظلمة عيني كانت تنشر على الدنيا حجابا براقا من الهناءة العميمة.. لكني أبصرت فجأة، فإذا الحجاب تمزق، والحقيقة تعرت.. الاعتراف بالجميل.. احترام الوالدين.. الوفاء.. الصداقة.. الحب.. العادات.. التقاليد.. الثواب.. العقاب.. الحكمة.. أباطيل.... أكاذيب.... وأوهام.... ما دام لم يعد شيء صادقا في العالم فما الحياة سوى أكذوبة كبرى"
"لتكن ملعونا أيها الطبيب الأجنبي الذي اختطف سعادتي حين وهبني النور.. أي نور؟! نورك أنت يا شيطان جهنم.. فهل يمكنني الآن النجاة من سحر تعاويذك؟؟ لما لا يكون ما أراه وهما من عمل الجن؟؟ لما لا يكون ما أراه إلا وهما وخبالا وأحاجي أبالسة؟؟ كم كنت غبيا حين سمحت له أن يجرب في شعوذته.. أين كانت حكمتي حين خضعت لسحره الأثيم؟؟"
"كم من أفراح أنا مدين لك بها يا عيوني المغلقة، وكم من أرزاء أصبتني بها يا عيوني المبصرة".
"يحتاج المرء لتحقيق سعادته إلى قناع يحجب عنه حقيقة الأشياء".
"كم كنت تسارع لتهتك عن نفسك الحجاب لتعتاض عنه بماذا أيها التعس؟! 
إنما السعادة الكاملة كانت في عماك، أما بصرك ففيه شبح الشقاء.. أريد العمى الذي يمنحني الحقيقة السعيدة".

ترجمت تلك المسرحية إلى عدد كبير من اللغات من بينها العربية، ليتم تقديمها بالإذاعة المصرية من خلال برنامجها الثقافي الزاخر بروائع المسرح العالمي، حيث أخراجها للإذاعة المخرج الإذاعي القدير: الشريف خاطر، ثم تم بعد ذلك تقديمها على التلفزيون كسهرة تلفزيونية من بطولة محمود المليجي وإخراج محمد عبدالسلام. وكلا العملين السابقين تناولا المسرحية بلغة فصحى تحفظ قدرا من الهيبة للنص الأصلي الذي ترجمتا عنه، وأوردا أسم مؤلفها على تترات البداية والنهاية. 

ولكن في عام 2007 تم إنتاج نفس المسرحية مع كثير من التشويه والاستظراف المبتذل في فيلم كوميدي تجاري تحت أسم " صباحو كدب"  من بطولة أحمد آدم وقصة نهى العمروسي -والتي ربما يحق لنا أن نشير أنها سبق اتهامها في قضية تعاطي مخدرات-  وسناريو وحوار أحمد عبدالله.. تم انتحال القصة دون أي تنويه عن تلك المسرحية ونصها الأصلي، والذي تم تشويهه وإفساده بمعالجة رديئة، وبسيناريو وحوار فشل رغم ركاكته حتى أن يكون مضحكا.. وهكذا تحول "تشنجآي" الشاعر والحكيم الصيني  بطل المسرحية على يد نهى العمروسي المؤلفة المنتحلة إلى "نعناعة" مدرس الموسيقي الذي يغني في الأفراح الشعبية. هذاالدور الذي فشل فيه أحمد آدم هو الآخر فشلا مدويا في إداء دور البطل الكفيف. وهكذا تحولت رائعة جورج كلمينصو  التراجيدية الخالدة والتي تنعكس فيها خلاصة خبرته الفلسفية والحياتية العارمة إلى مهزلة فنية على يد القرموطي "أحمد آدم" والحرامية "نهى العمروسي" منتحلة القصة، والتي وإن كان برئها القضاء من تهمة تعاطي المخدرات، فلا يمكن لمنصف من أن يبرئها من السرقة الأدبية، والتشويه الفني الذي هو في تداعياته وآثاره أخطر بكثير من المخدرات وتعاطيها.. ففي واحدة من أسوأ السرقات والانتحالات الأدبية -والتي مع الأسف تزخر بها السينما المصرية- تم إلقاء "قناع السعادة" جانبا؛ ليظهر لنا فيلم في منتهى القبح والدمامة أسمه لا يصف إلا حال أصحابه ومؤلفيه.. فصباحهم كدب في سرقة في كدب.

الجمعة، 1 مايو 2020

القيم هي منتج الحضارة الأهم


صورة للمطرب أحمد عبدالقادر والفانوس مع جدارية 
طرد الهكسوس من مصر على يد القائد أحمس

مصر تلك البلد التي لاح فيها فجر الضمير فبزغت منها شمس الحضارة إلى العالم، فهوت إليها الحضارات والثقافات من كل حدب وصوب؛ ليتشكل فيها أرث ضخم عتيق من تداخل أطياف الحضارة والثقافة الإنسانية على اختلاف مشاربها. وعلى الرغم من كل تلك الرحلة الطويلة لازالت آثار هذا الأرث الضخم تلمع بين حين وآخر في ملامح الشخصية المصرية الطاعنة في القدم رغم ما لاقت من قسوة المستعمرين، وفساد ولاة الأمر على مر العصور والحقب.

أن تكون مصري لهو عبء ثقيل وشعور مربك للغاية، حيث ستحمل على كتفيك عبء تاريخ طويل يصعب عليك التعاطي معه، فضلا عن الإلمام به خاصة في هذا الزمن الذي وصلت فيه مصر إلى القاع، ولازالت تواصل السقوط تحت وطئة الجهل والفساد والظلم والفقر والقهر.. ولكن يبقى للذهب بريقه ولمعانه مهما طالته الأدناس، وتقادم عهده. فالشخصية المصرية والتي هي من وجهة نظري تعد خلاطا ثقافيا بامتياز، حيث لها القدرة على أن تمزج كل أبعاد الشخصية الإنسانية على تبايناتها على مر عصورها في خليط واحد في قمة التجانس والروعة وبمنتهى البساطة من خلال الوجدان الشعبي البسيط، بل تستطيع بما يستدعيه هذا الوجدان أن تؤرخ بكل يسر وسهولة لعبقرية الأرث والأثر متجاوزة حدود الزمن.

فهل لأحد أن يتخيل أن هناك ثمة رابط بين أحمس طارد الهكسوس، والشيعة الفاطمية، ومطرب وملحن من أربعينيات القرن الماضي لم ينل كثير شهرة أو ذيوع صيت هو (أحمد عبدالقادر)؟؟ 

في الحقيقة لا يستطيع عاقل أيا كان أن يجد ذلك الرابط دون فهم عميق لعبقرية الوجدان الشعبي للمصريين، والذي يعد كما قلت آنفا خلاطا ثقافيا بامتياز يستطيع أن يمزج بين الشرق والغرب والماضي والحاضر ليخرج لنا مزيجا عبقريا يصعب فك شفرته للوهلة الأولى.
 فأغنية مثل -وحوي يا وحوي إياحة- والتي لحنها وغناها للأطفال المطرب والملحن أحمد عبدالقادر لتكن هي النشيد الرسمي للعب بالفانوس، والذي هو الشعار الشعبي الأكثر شهرة لشهر رمضان الكريم، والذي ظهر في مصر لأول مرة في عصر حكم الدولة الفاطمية الشيعية التي أولت اهتماما بالغا للاحتفالات الدينية في محاولة منها لتشييع مصر السنية لهي خير دليل على ما تقدم من هذا المزج العبقري للمنتجات الحضارية على اختلاف منابعها وعصورها.. فعند البحث عن معنى -وحوي يا وحوي إياحة- تكتمل الصورة تماما حيث تلك كلمات احتفالية باللغة المصرية القديمة -الهيروغلفية- غناها المصريون أنفسهم قبل نحو ما يزيد عن أربعة وعشرين قرنا من ظهور الفاطميين في مصر للملكة (إياح حتب) أم الملك المصري الشاب إنذاك (أحمس) احتفالا بها وبأبنها لطرده الهكسوس من مصر.. هكذا صمدت تلك العبارة والتي تعني -أفرحي يا إياح- أكثر من أربعة وعشرين قرنا من الزمان في الوجدان الشعبي للمصريين ليتم استدعائها، وتظهر كواحدة من أشهر أغاني الاحتفال بشهر رمضان الكريم والتي يتغنى بها الصغار والكبار.

هذه الحكاية والتي تعبر بجدارة عن طريقة معالجة واستدعاء وتعاطي الوجدان الشعبي البسيط للمصريين للتاريخ والحضارة فيها من الدلالة والعمق ما يجعلها من وجهة نظري أكثر فخارا وعظمة من الأهرامات أو معبد الكرنك.. ذلك أن المصريين على بساطتهم وضيق أحوالهم وفقرهم وانتكاساتهم في هذه العصور المتأخرة لازال يلمع فيهم بريق هذا الأرث الطويل المتراكم من حضارة أجدادهم. فالحضارة في مضمونها وعمقها ليست في عظمة الأهرامات ولا في روعة بنيان المعابد التي تقف في أمكانها متحدية الزمن، بل في القيم الحقيقة للإنسان كما يشرح جميس هنري برستيد في كتابه الشهير فجر الضمير. إن الوفاء الإنساني للأسلاف الأوائل، والتقدير لحربهم الشريفة لدفع العدوان، وتخليد ذكرى انتصارهم لاسترداد أرضهم وحقوقهم المغتصبة لهو التحضر الفعلي كما أفهمه من خلال نظرة مؤرخ كبرستيد لمفهوم الحضارة والقيم، ففيه بقاء قيم الأجداد التي بها بُنيت الحضارة، وبها نفسها لا غيرها ستبنى كل حضارة على مر التاريخ.. حيث الإنسان بقيمه دائما وأبدا سابقا عن البنيان مهما جل أو عظم.

للاستماع إلى أغنية وحوي يا وحوي أضغط هنا

الخميس، 30 أبريل 2020

صوفية الروح المنهزمة


كقائد حربي حاصره أعدائه، فتمرد عليه جنوده، فكفر بالحرب، وفكر بالانتحار.. أو كفاصلة بين جملتين من الهراء، أتمنى نقطة لتنتهي المهزلة.. مهزلة الأسئلة الملحة التي تنكأ الروح والجروح.. أي حيلة بارعة تلك التي تجعلنا نكذب الموت الصادق؛ لنصدق الحياة الخادعة؟؟ ما قيمة الحكمة من الحياة طالما لم نعرفها فيها؟؟ ما قيمة الحقيقة إذا ظلت مستحيلة؟؟ ما قيمة أي شيء غير موجود؟؟

ربما فقط في النهاية يكون بوسعنا أن نفهم أن أكبر خطأ أرتكبه الإنسان في الحياة كان إصراره على معرفة الصواب من الخطأ فيها.. ففي حروب الحق والباطل السرمدية.. هل يعقل أن نطلب من الحق أن لا يكون مكيافيليا، بينما الباطل يعربد مستخدما كل الوسائل؟؟وهل الحق الذي نصل إليه بطريق الباطل يظل حقا؟؟ وهل يوجد أي حق مطلق هنا أصلا غير الباطل؟؟ كلها أسئلة إجابتها أسئلة إلى ما لانهاية.. 

إن الزيف الذي يملأ نفوسنا، هو الذي يودي بنا.. كأن شيئا لن يحدث برغم كل ما حدث حيث الحياة هنا تعاملنا باستخفاف منقطع النظير. 

بحس صوفي خالص أُهمهم راضيا أو لامبالي: ألا رحم الله رجلا سخر من عجزه وقلة حيلته، فضحك حتى فاضت عيناه.. يراودني العطب مشككا في إبتسامة حزني: هل تنتشي حقا ببكاء كمنجة حزينة أم أن نشوتك في أصلها مجرد شماتة؟! يصمت قلبي إنهزاما من جديد.. يحدثني عقلي: كم تبدو عظيما وفخما وصادقا حين تهزم.. أقول: حتى عندما يبدي المنتصر تقديرا واحتراما للخاسر المنهزم، لا يكون ذلك من باب مواساته، ولكن من باب تضخيم خصمه؛ لتعظيم انتصاره.

فيوضات العبث