لست في حاجة لتذهب إلى ما ذهب إليه السفسطائيون من فكرة استحالة المعرفة، وعدم امكانيتها على الأطلاق؛ كي تدرك تهافت المعرفة الإنسانية برمتها. ذلك أن تسليمك بإمكانية المعرفة لن يفضي بك إلا لاستحالتها وتهافتها وتداعيها على نفسها من الداخل، بل ومن نفس سبل وطرق إثباتها. ولعل موضوعا فلسفيا عتيقا وعميقا كالسببية (العلية) بما فيها من استقراء ينبني عليه العلم التجريبي يفي بالغرض لنستوضح من ذلك أكثر.
لطالما ظل العقل الإنساني يعول كثيرا وطويلا على مبدأ السببية كونه واحد من أهم المبادئ العقلية الحتمية المجردة، والأدوات المنطقية الدقيقة الضرورية لفهم العالم والإنسان، بل وفهم ما ورائهما أيضا. لكن ظهور الفيلسوف الشكوكي التجريبي الاسكتلندي ديفيد هيوم في القرن الثامن عشر هز بنيان السببية الراسخ لقرون وقرون. لقد ضرب هيوم حتمية السببية في مقتل حين ربطها بالعادة والتكرار والاستقراء، بل ووصل لأبعد من ذلك حين خلص أن السببية ليست ضامنا حتميا للتنبؤ. فالعادة والتكرار الناجمان عن المخيلة سبلا تجريبية، لا سبلا عقلية محضة في ذاتها كما قد يُتوهم، حيث أن علاقة السبب بالنتيجة والحدث بالأثر علاقة قائمة على العادة والتكرار الناجم من المخيلة، بل وأن البناء على ذلك من خلال الاستقراء يحوي عيوبا كثيرة وكبيرة. فما هو الضامن أن التكرار سيستمر، والعادة ستظل إلا بالتجربة؟؟ وهل الاستقراء الناجم من الظن إن العادة ستظل، والتكرار سيستمر يكون صحيحا صحة مطلقة؟؟
إن الإشكال في رد السببية إلى التجربة سوف يلحق بها كمبدأ عقلي كل تلك الإشكالات التي نواجهها يوما بعد يوم في التجارب. فمما لا شك فيه أن التجربة اليوم تعقدت هي ومعطياتها ونتائجها كثيرا عما هي عليه في زمن هيوم حيث الكون المكانيكي المحتم وفقا للنظرة النوتينية القديمة. فنحن مثلا الآن نرى أبعاد المكان والزمان ليسوا أبعادا مطلقة وفقا لنسبية إينشاتين، بل صرنا في وقت لاحق لذلك لا نقطع أصلا بأماكن تواجد الجسيمات التحت ذرية وفقا لمكانيكا الكم. إننا نتفهم اليوم جيدا تأثير الوعي على الرصد مما ينعكس تباعا في النتائج، ولهذا أصبحنا نستخدم الإحصاء وعشوائيتها لترتيب مخرجات تجاربنا لنصل إلى أفضل نتيجة محتملة مرجحة. إن تعمقنا في التجارب لم يفضي بنا إلا للاحتمالية أكثر وأكثر، حيث أصبح العلم التجريبي ذاته مبني على الاحتمال والترجيح، لا على القطع واليقين. ومن هذا المنحى تصبح السببية المرتبطة بالعادة القائمة على التجريب ذاتها احتمالية وليست قطعية. ولم يتوقف الأمر عند ذلك حيث أن بنيان الاستقراء القائم على السببية ينقلب على نفسه مواجها إشكالات أكثر صعوبة. إن الاستقراء في أحسن أحواله لابد أن يظل ناقصا ومحتملا؛ لأنه لو اكتمل لانتفى بكليته، حيث تصير مقدماته هي نفسها نتائجه ويفقد صفته الاستقرائية، ناهيك عن صدام الاستقراء كآلية عقلية مع أسئلة أكثر حدة من عينة.. ما هو سبب تعميم حكم ما على كافة التجارب إن لم نقوم إلا ببعضها؟؟ وما هو سبب تعميم أحكامنا أصلا على المستقبل مع أن التجارب محكومة زمنيا بالوقت الحالي أو السابق؟؟ وما بالنا لو كان المستقبل يؤثر في الماضي وفقا لمشاهداتنا وملاحظاتنا في تجارب حديثة كتجربة الشق المزدوج لرصد الإلكترونات؟؟ إن تجاربنا وملاحظتنا حول الأجسام التحت ذرية المتناهية الصغر جعلت من الكون المادي محض احتمالات لانهائية نرصد منها فقط الاحتمال الذي يكون بوسعنا إدراكه، فكيف نرد احتمالات ما نرصده إلى أسباب قطعية ثابتة؟؟ كيف نقطع بأي شيء متجاوز للمادة، والمادة ذاتها لا يمكن الجزم بحقيقتها بعد ما عرفناه عنها من خلال الاتصال الشبحي (التشابك الكمي- Quantum Entanglement) حيث كل الاحتمالات في الكون المادي واردة ولا يوجد شيء معد مسبقا، ناهيك عن تأثير زينو الكمي (Quantum Zeno Effect) حيث الحركة المرصودة وهمية ومتصورة وغير حقيقية؟؟
ولم يتوقف نقد السببية ونقضها عند هذا الحد، فلقد ذهب جون ستيورات مل إلى ما هو أبعد من ذلك حين خلص أن السببية تتداعى على نفسها من الداخل بالعودة بها إلى الوارء حيث تصل بنا إلى احتمالين كل منهما يهدمها لا محالة. الأول: وجود مسبب بلا سبب، والقول بهذا يعني انهدام السببية عند تلك النقطة بحيث تصبح ليست حقيقة مطلقة، والثاني هو ضرورة من التسلسل اللانهائي الممتنع عقلا. ولربما هذا هو ما دفع برتراند راسل لاحقا للاعتقاد بأن السببية سايكولوجية بدائية مترسخة فينا لا نستطيع أن ننكر حضورها القوي في الحيوان. فالدواجن مثلا تتوقع الطعام من يد من تعودت أن يطعمها لربطها بالعادة والتكرار بين وجود هذا الشخص والطعام. لكن التجربة تثبت أن هذه التوقعات الغشيمة للاطراد مضللة. حيث أن الرجل الذي ظل يطعم الدواجن كل يوم على مدى حياتها، هو نفسه الذي سوف يذبحها يوما ما بدلا من إطعامها. يريد راسل من خلال مثال الدواجن هذا أن يبرز هشاشة السببية والاستقراء والتنبؤ.
إلا أنه وعلى الرغم من كل ما سبق، يُبقى الفلاسفة والعلماء على السببية كونها إداة معرفية محتملة لا نمتلك رفاهية التخلي عنها. حيث يؤكد راسل على ذلك حين يقول أننا يجب أن نؤمن على مضض بصدق السببية ومبدأ الاستقراء كفعل أعمى من أفعال الإيمان، حتى يتسنى لنا المضي قدما في طريق العلم ليس أكثر. ونجد هذا المعنى حاضر بقوة أكبر عند كارل بوبر فيلسوف المنهج العلمي الأول حيث يرى أن المعرفة تكون معرفة بقدر ما كانت تصلح للدحض والشك والتجريب؛ لأن في ذلك صيرورتها وتطورها وتناميها.
وخلاصة ما يمكن قوله أن هنالك خللا ضاربا بعمق بين السبب والنتيجة وبين الحدث والأثر ناجم عن ضعف المخيلة وقصور الوعي. وأن هذا الخلل يجعل الاحتمال القائل أنه لا ثمة رابط أصلا بين الأسباب والنتائج ممكنا وقائما، بل لا يمكن دحضه على الأطلاق حيث لا يمكن أرجاع أي نتيجة أو أثر لسبب أو حدث واحد. أننا بقدر ما اقتربنا من الحقائق بقدر ما تعقدت المشاهدة وغامت الرؤية وتشوشت الروابط بحيث لا تعدو السببية كونها أكثر من حماقة بدائية نتشاطر شقها الأكبر مع الحيوانات التي نظنها أدنى منزلة ووعيا. بل أن ما ندركه من تراكم الواقع وتعقيده يجعلنا ندرك معاني أكثر عمقا منها مثلا أن النتيجة لربما تكون أكثر تأثيرا في السبب المحرك لها منه في تسبيبها، حيث النتائج بتراكمها وتداخلها وتفاعلها بوسعها أن تلاشي الأسباب الأولى كونها تصبح بحد ذاتها أسبابا مستقلة مع الوقت، بل مع الوقت أيضا تلاشيها نتائجها، وهكذا إلى ما لانهاية. فليست السببية القانون الوحيد كما يوهمنا الوعي كي ينطلق بنا زمرا في الشتات، فالعلية بذاتها هي جدلية وعينا المفرغ التي تجبرنا على الاستسلام لها؛ كي نتأقلم مع العبث الكائن سلفا كونه المنطق الوحيد المتاح. يتجلى هذا العبث واضحا بالنظر لسؤال العلم عن الكيفية (كيف) لا سؤال العلية والسببية (لماذا). حيث كيف للوعي الإنساني أن يضع كل هذه الافتراضات للإجابة عن لماذا، بل ويطور ميكانيزم السببية للتعاطي معه على هذا النحو من التسليم، قبل أن يجيب أصلا عن السؤال الأسهل المتعلق بالكيفية والذي كلما تراكمت تصوارته المعرفية أوردتنا حدود التلاشي أمام لا نهائية الاحتمالات؟؟